فصل: قال البقاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في الخداع:
وهو إِنزال الغير عمّا هو بِصَدَده بأَمر يبديه على خلاف ما يخفيه.
والخداع ورد في القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: خداع الكفار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأَن يعقدوا معه عهدًا في الظَّاهر وينقضوه في الباطن {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}.
الثَّانى: خداع اليهود مع أَهل الإِيمان يصالحونهم في الظَّاهر ويتهيّئون لحربهم في الباطن {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم}.
الثالث: خداع المنافقين مع المؤمنين بإِظهار الإِيمان وإِبطان الكفر {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ}.
الرّابع: خداع الله الكفَّار والمنافقينَ بإِسبال النِّعمة عليهم في الدّنيا.
وادّخار أَنواع العقوبة لهم في العُقْبَى {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وقيل في قوله تعالى: {يُخَادِعُون اللهَ} أَى يخادعون رسول الله وأَولياءَه.
ونُسب ذلك إِلى الله من حيث إِنَّ معاملة الرّسول صلى الله عليه وسلم كمعاملته، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وجُعل ذلك خداعًا تفظيعًا لفعلهم، وتنبيهًا على عظم الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وعظم أَوليائه.
وقول أَهل اللُّغة إِنَّ هذا على حذف المضاف وإِقامة المضاف إِليه مُقامه فيجب أَن يعلم أَنَّ المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أَتى بالمضاف المحذوف لِمَا ذكرنا من التنبيه على أَمرين:
أَحدهما: فظاعة فعلهم فيما تحرّوه من الخديعة، وأَنَّهم بمخادعتهم إِيّاه يخادعون الله.
والثانى: التنبيه على عظم المقصود بالخداع وأَنَّ معاملته كمعاملة الله.
وقوله تعالى: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} قيل: معناه: مجازيهم بالخداع.
وخَدَع الضبُّ أَى استتر في جُحره.
واستعمال ذلك في الضبّ لِمَا اعتقدوا في الضبّ أَنَّه يُعِدّ عقربًا تلدغ من يُدخل يده في جُحْرِه حتَّى قيل: العقرب بوّاب الضَّبِّ وحاجبُه.
ولاعتقاد الخديعة فيه قيل: أَخدع من ضبّ.
وطريق خادع وخَيْدَعٌ: مُضِلّ كأَنَّه يخدع سالكه.
وقيل: المؤمن يُخدع عن درهمه ولا يُخدع عن دينه، والمنافق يُخدع عن دينه ولا يُخدع عن درهمه.
وفى الحديث: «إِنَّ بين يدى السّاعة سنين خَدَّاعة» قيل معناه أَنَّ النَّاس فيها خُدّاع.
وقيل: من قولهم سنة خادعة إِذا مضت سريعة، أَى سنون تمرّ سريعة لقربها من القيامة، ولغفلة النَّاس فيها عن مرور الأَيّام.
قال:
أَلا إِنَّ دنياك مثل الوديعة ** جميعُ أَمانيك فيها خديعهْ

فلا تغتررْ بالَّذى نِلْته ** فما هي إِلاَّ سراب بِقِيعهْ

وقول الشَّاعر:
أَبيضَ اللَّون لذيذا طعمه ** طيِّبَ الرّيق إِذا الرّيقُ خَدَع

أَي فسد، أَى خفى طِيبُه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (10):

قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

ثم بين سبحانه أن سبب الغفلة عن هذا الظاهر كون آلة إدراكهم مريضة، شغلها المرض عن إدراك ما ينفعها فهي لا تجنح إلا إلى ما يؤذيها، كالمريض لا تميل نفسه إلى غير مضارها فقال جوابًا لمن كأنه قال: ما سبب فعلهم هذا من الخداع وعدم الشعور؟ {في قلوبهم مرض} أي من أصل الخلقة يوهن قوى الإيمان فيها ويوجب ضعف أفعالهم الإسلامية وخللها، لأن المرض كما قال الحرالي: ضعف في القوى يترتب عليه خلل في الأفعال {فزادهم الله} أي بما له من صفات الجلال والإكرام لمخادعتهم بما يرون من عدم تأثيرها {مرضًا} أي سوء اعتقاد بما يزيد من خداعهم وألمًا في قلوبهم بما يرون من خيبة مطلوبهم، فانسد عليهم باب الفهم والسداد جملة، والزيادة قال الحرالي: استحداث أمر لم يكن في موجود الشيء. انتهى.
{ولهم} أي مع ضرر الغباوة في الدنيا الملحقة بالبهائم {عذاب أليم} في الآخرة أي شديد الألم وهو الوجع اللازم. قاله الحرالي.
{وبما كانوا} قال الحرالي: من كان الشيء وكان الشيء كذا إذا ظهر وجوده وتمت صورته أو ظهر ذلك الكذا من ذات نفسه. انتهى.
{يكذبون} أي يوقعون الكذب وهو الإخبار عن أنفسهم بالإيمان مع تلبّسهم بالكفران، والمعنى على قراءة التشديد يبالغون في الكذب، أو ينسبون الصادق إلى الكذب، وذلك أشنع الكذب. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} فاعلم أن المرض صفة توجب وقوع الضرر في الأفعال الصادرة عن موضع تلك الصفة، ولما كان الأثر الخاص بالقلب إنما هو معرفة الله تعالى وطاعته وعبوديته، فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعًا من هذه الآثار كانت تلك الصفات أمراضًا للقلب.
فإن قيل: الزيادة من جنس المزيد عليه، فلو كان المراد من المرض هاهنا الكفر والجهل لكان قوله: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} محمولًا على الكفر والجهل، فيلزم أن يكون الله تعالى فاعلًا للكفر والجهل.
قالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى منه فعل الكفر والجهل لوجوه:
أحدها: أن الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف تأمرنا بالإيمان؟ وثانيها: أنه تعالى لو كان فاعلًا للكفر لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكذاب، فكان لا يبقى كون القرآن حجة فكيف نتشاغل بمعانيه وتفسيره.
وثالثها: أنه تعالى ذكر هذه الآيات في معرض الذم لهم على كفرهم فكيف يذمهم على شيء خلقه فيهم.
ورابعها: قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فإن كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأي ذنب لهم حتى يعذبهم؟ وخامسها: أنه تعالى أضافه إليهم بقوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الأرض، وأنهم هم السفهاء، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إذا ثبت هذا فنقول: لابد من التأويل وهو من وجوه:
الأول: يحمل المرض على الغم، لأنه يقال مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا ثبات أمر النبي صلى الله عليه وسلم واستعلاء شأنه يومًا فيومًا.
وذلك كان يؤثر في زوال رياستهم، كما روي أنه عليه السلام مر بعبد الله بن أبي بن سلول على حمار، فقال له نح حمارك يا محمد فقد آذتني ريحه، فقال له بعض الأنصار اعذره يا رسول الله، فقد كنا عزمنا على أن نتوجه الرياسة قبل أن تقدم علينا: فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف الله تعالى ذلك فقال: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} أي زادهم الله غمًا على غمهم بما يزيد في إعلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم شأنه.
الثاني: أن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف، فهو كقوله تعالى في سورة التوبة: {فَزَادَهُمُ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم لما ازدادوا رجسًا عند نزولها لما كفروا بها قيل ذلك، وكقوله تعالى حكاية عن نوح {إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَارًا} [نوح: 5، 6] والدعاء لم يفعل شيئًا من هذا، ولكنهم ازدادوا فرارًا عنده، وقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي وَلاَ تَفْتِنّى} [التوبة: 49] والنبي عليه السلام إن لم يأذن له لم يفتنه، ولكنه كان يفتتن عند خروجه فنسبت الفتنة إليه {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْرًا} [المادة: 64] وقال: {فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [فاطر: 42] وقولك لمن وعظته فلم يتعظ وتمادى في فساده: ما زادتك موعظتي إلا شرًا، ومازادتك إلا فسادًا فكذا هؤلاء المنافقون لما كانوا كافرين ثم دعاهم الله إلى شرائع دينه فكفروا بتلك الشرائع وازدادوا بسبب ذلك كفرًا لا جرم أضيفت زيادة كفرهم إلى الله.
الثالث: المراد من قوله: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} المنع من زيادة الألطاف، فيكون بسبب ذلك المنع خاذلًا لهم وهو كقوله: {قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] الرابع: أن العرب تصف فتور الطرف بالمرض، فيقولون: جارية مريضة الطرف.
قال جرير:
إن العيون التي في طرفها مرض ** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النية، وذلك لأنهم في أول الأمر كانت قلوبهم قوية على المحاربة والمنازعة وإظهار الخصومة، ثم انكسرت شوكتهم فأخذوا في النفاق بسبب ذلك الخوف والإنكسار، فقال تعالى: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} أي زادهم ذلك الانكسار والجبن والضعف، ولقد حقق الله تعالى ذلك بقوله: {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين} [الحشر: 2] الخامس: أن يحمل المرض على ألم القلب، وذلك أن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك فربما صار ذلك سببًا لغير مزاج القلب وتألمه، وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته، فكان أولى من سائر الوجوه. اهـ.

.قال القرطبي:

{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ابتداء وخبر.
والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم.
وذلك إما أن يكون شكًا ونفاقًا، وإما جَحْدًا وتكذيبًا.
والمعنى: قلوبهم مرضى لخلوّها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد.
قال ابن فارس اللغوي: المرض كل ما خرج به الإنسان عن حدّ الصحة من علّة أو نفاق أو تقصير في أمر.
والقراء مجمعون على فتح الراء من مَرَض إلا ما روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سكّن الراء.
قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} قيل: هو دعاء عليهم.
ويكون معنى الكلام: زادهم الله شكًّا ونفاقًا جزاء على كفرهم وضعفًا عن الانتصار وعجزًا عن القدرة؛ كما قال الشاعر:
يا مُرْسِلَ الرِّيح جَنوبًا وصَبَا ** إذْ غَضِبَتْ زيدٌ فزِدْها غضبًا

أي لا تهدها على الانتصار فيما غضبت منه.
وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز الدعاء على المنافقين والطرد لهم؛ لأنهم شَرّ خلق الله.
وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم؛ أي فزادهم الله مرضًا إلى مرضهم؛ كما قال في آية أخرى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125].
وقال أرباب المعاني: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي بسكونهم إلى الدنيا وحبّهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها.
وقوله: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} أي وكَلَهم إلى أنفسهم، وجمع عليهم هموم الدنيا فلم يتفرّغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} المرض عبارة عما يعرِضُ للبدن فيُخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخللَ في أفاعيله، ويؤدّي إلى الموت، استُعير هاهنا لما في قلوبهم من الجهل وسوءِ العقيدة، وعداوةِ النبي صلى الله عليه وسلم وغيرِ ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني، والتنكيرُ للدلالة على كونه نوعًا مُبهمًا غيرَ ما يتعارفه الناس من الأمراض، والجملةُ مقرِّرة لما يفيده قوله تعالى: {مَّا هُم بِمُؤْمِنِينَ} من استمرار عدمِ إيمانهم، أو تعليلٌ له كأنه قيل: ما لهم لا يؤمنون فقيل: في قلوبهم مرضٌ يمنعهم {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} بأن طُبع على قلوبهم، لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكيرُ والإنذار، والجملةُ معطوفة على ما قبلها، والفاءُ للدلالة على ترتّب مضمونِها عليه، وبه اتضح كونُهم من الكفرة المختومِ على قلوبهم مع زيادة بيانِ السبب، وقيل: زادهم كفرًا بزيادة التكاليف الشرعية، لأنهم كانوا كلما ازداد التكاليفُ بنزول الوحي يزدادون كفرًا، ويجوز أن يكون المرض مستعارًا لما تداخلَ قلوبَهم من الضعف والجُبن والخَوَر عند مشاهدتهم لعزة المسلمين، فزيادتُه تعالى إياهم مرضًا ما فعل بهم من إلقاء الرَّوْع وقذف الرعب في قلوبهم عند إعزازِ الدين بإمداد النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة، وتأييدِه بفنون النصر والتمكين، فقوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} الخ حينئذ استئنافٌ تعليلي لقوله تعالى: {يخادعون الله} الخ، كأنه قيل: ما لهم يخادعون ويداهنون ولم لا يجاهرون بما في قلوبهم من الكفر؟ فقيل: في قلوبهم ضَعفٌ مضاعَف، هذه حالُهم في الدنيا. اهـ.

.قال الألوسي:

المرض بفتح الراء كما قرأ الجمهور، وبسكونها كما قرأ الأصمعي عن أبي عمر وعلى ما ذهب إليه أهل اللغة حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل، وعند الأطباء ما يقابل الصحة وهي الحالة التي تصدر عنها الأفعال سليمة، والمراد من الأفعال ما هو متعارف وهي إما طبيعية كالنمو أو حيوانية كالنفس أو نفسانية كجودة الفكر، فالحول والحدب مثلًا مرض عندهم دون أهل اللغة وقد يطلق المرض لغة على أثره وهو الألم كما قاله جمع ممن يوثق بهم، وعلى الظلمة كما في قوله:
في ليلة مرضت من كل ناحية ** فما يحس بها نجم ولا قمر

وعلى ضعف القلب وفتوره كما قاله غير واحد ويطلق مجازًا على ما يعرض المرء مما يخل بكمال نفسه كالبغضاء والغفلة وسوء العقيدة والحسد وغير ذلك من موانع الكمالات المشابهة لاختلال البدن المانع عن الملاذ والمؤدية إلى الهلاك الروحاني الذي هو أعظم من الهلاك الجسماني، والمنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وسائر السلف الصالح حمل المرض في الآية على المعنى المجازي.
ولا شك أن قلوب المنافقين كانت ملأى من تلك الخبائث التي منعتهم مما منعتهم وأوصلتهم إلى الدرك الأسفل من النار.
ولا مانع عند بعضهم أن يحمل المرض أيضًا على حقيقته الذي هو الظلمة {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 0 4] {والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات} [البقرة: 257] وكذا على الألم فإن في قلوب أولئك ألمًا عظيمًا بواسطة شوكة الإسلام وانتظام أمورهم غاية الانتظام، فالآية على هذا محتملة للمعنيين ونصب القرينة المانعة في المجاز إنما يشترط في تعيينه دون احتماله فإذا تضمن نكتة ساوى الحقيقة فيمكن الحمل عليهما نظرًا إلى الأصالة والنكتة إلا أنه يرد هنا أن الألم مطلقًا ليس حقيقة المرض بل حقيقته الألم لسوى المزاج وهو مفقود في المنافقين والقول بأن حالهم التي هم عليها تفضي إليه في غاية الركاكة على أن قلوب أولئك لو كانت مريضة لكانت أجسامهم كذلك أو لكان الحمام عاجلهم ويشهد لذلك الحديث النبوي والقانون الطبي، أما الأول: فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجسد مضغة» الحديث، وأما الثاني: فلأن الحكماء بعد أن بينوا تشريح القلب قالوا إذا حصلت فيه مادة غليظة فإن تمكنت منه ومن غلافه أو من أحدهما عاجلت المنية صاحبه وإن لم تتمكن تأخرت الحياة مدة يسيرة ولا سبيل إلى بقائها مع مرض القلب، فالأولى دراية ورواية حمله على المعنى المجازي ومنه الجبن والخور وقد داخل ذلك قلوب المنافقين حين شاهدوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ما شاهدوا.
والتنوين للدلالة على أنه نوع غير ما يتعارفه الناس من الأمراض، ولم يجمع كما جمع القلوب لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلًا فاكتفى بجمعها عن جمعه.
والجملة الأولى إما مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق أو مقررة لما يفيده {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] من استمرار عدم إيمانهم أو تعليل له كأنه قيل: ما بالهم لا يؤمنون؟ فقال: في قلوبهم مرض يمنعه أو مقررة لعدم الشعور وإن كان سبيل قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] سبيل الاعتراض على ما قيل وجملة {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} إما دعائية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه والمعترضة قد تقرت بالفاء كما في قوله:
واعلم فعلم المرء ينفعه ** أن سوف يأتي كلما قدرا

كما صرح به في التلويح وغيره نقلًا عن النحاة أو إخبارية معطوفة على الأولى وعطف الماضي على الاسمية لنكتة إن أريد في الأولى أن ذلك لم يزل غضًا طريًا إلى زمن الأخبار، وفي الثانية أن ذلك سبب لازدياد مرضهم المحقق إذ لولا تدنس فطرتهم لازدادوا بما منّ الله تعالى به على المؤمنين شفاء ولا يتكرر هذا مع قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم} [البقرة: 5 1] للفرق بين زيادة المرض وزيادة الطغيان على أنه لا مانع من زيادة التوكيد مع بعد المسافة، وأيضًا الدعاء إن لم يكن جاريًا على لسان العبد أو مرادًا به مجرد السب والتنقيص يكون إيجابًا منه سبحانه فيؤول إلى ما آل إليه الأخبار وزيادة الله تعالى مرضهم إما بتضعيف حسدهم بزيادة نعم الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أو ظلمة قلوبهم بتجدد كفرهم بما ينزله سبحانه شيئًا فشيئًا من الآيات والذكر الحكيم فهم في ظلمات بعضها فوق بعض أو بتكثير خوفهم ورعبهم المترتب عليه ترك مجاهرتهم بالكفر بسبب إمداد الله تعالى الإسلام ورفع أعلامه على أعلام الإعزاز والاحترام، أو بإعظام الألم بزيادة الغموم وإيقاد نيران الهموم.
والغم يخترم النفوس نحافة ** ويشيب ناصية الصبي ويهرم

ويكون ذلك بتكاليف الله تعالى لهم المتجددة وفعلهم لها مع كفرهم بها وبتكليف النبي صلى الله عليه وسلم لهم ببعض الأمور وتخلفهم عنه الجالب لما يكرهونه من لومهم وسوء الظن بهم فيغتمون إن فعلوا وإن تركوا ونسبة الزيادة إلى الله تعالى حقيقة ولو فسرت بالطبع فإنه سبحانه الفاعل الحقيقي بالأسباب وبغيرها ولا يقبح منه شيء، وبعضهم جعل الإسناد مجازًا في بعض الوجوه ولعله نزغة اعتزالية، وأغرب بعضهم فقال: الإسناد مجازي كيفما كان المرض، وحمل على أن المراد أنه ليس هنا من يزيدهم مرضًا حقيقة على رأي الشيخ عبد القاهر في أنه لا يلزم في الإسناد المجازي أن يكون للفعل فاعل يكون الإسناد إليه حقيقة مثل.
يزيدك وجهه حسنا ** إذا ما زدته نظرًا

فتدبر، وإنما عدى سبحانه الزيادة إليهم لا إلى القلوب فلم يقل فزادها إما ارتكابًا لحذف المضاف أي فزاد الله قلوبهم مرضًا أو إشارة إلى أن مرض القلب مرض لسائر الجسد أو رمزًا إلى أن القلب هو النفس الناطقة ولولاها ما كان الإنسان إنسانًا وإعادة مرض منكرًا لكونه مغايرًا للأول ضرورة أن المزيد يغاير المزيد عليه، وتوهم من زعم أنه من وضع المظهر موضع المضمر، والتنكير للتفخيم. اهـ.